من الضلال إلى الهدى:كانت بناية هذه المدرسة تحتضن الدعارة والبغاء في مدينة مليانة، وقد كتب لها أن تنتقل من الضلال إلى الهدى بعد أن أفلست سياسة فرنسا العفنة في تخريب عقول ناشئتنا ومجتمعنا، بما أعدته لهما من وسائل الهدم والتخريب، وأمعنت في زرع دور البغاء العلني، وحانات الخمور، وقاعات القمار، ونوادي الليل في كل مدننا وقرانا، والغريب في الأمر أن هذه الأوكار إنما تبنيها في الأحياء الشعبية لا في الأحياء الأوروبية، فهي لم تنشئها للأوروبيين، وإنما للعرب المسلمين، وشأنها في هذا كشأن الشيطان "
إذ قال للإنسان اكفر، فلما كفر قال إني بريء منك".
تلك هي البناية التي تحولت إلى مدرسة الفلاح ونادي الإصلاح في مدينة مليانة.
وتأسست"
جمعية الفلاح" في أواخر الأربعينات، واستأجرت هذه البناية عندما عرضت للكراء، بعد إفلاس سوقها، فطهرتها وأصلحتها وكونت فيها ثلاثة أقسام، قسمان علويان وقسم أرضي، أما مدخل الدار الذي كان فيما مضى مرقص الزبناء الغواة فقد اتخذ كساحة للعب وتتوفر فيه جميع الشروط، والباقي من البناية قد اتخذ جزء منها " ناديا" والجزء الثاني حول إلى مسكنين أحدهما يسكنه الأستاذ
محمد الشريف الحسيني وزوجته المعلمة، وثانيهما تسكنه قيمة المدرسة السيدة فروخي مع أولادها، وبقيت بعض الفراغات الأخرى تنوي الجمعية استغلالها والاستفادة منها عند الحاجة، وانضمت الجمعية والمدرسة لمدارس جمعية العلماء في سنة 1952.
أما النادي الذي هو جزء من المدرسة فقد كان يستقبل سباب البلدة ورجالها بيد أنه لم يقم بدوره الفعال في بلورة الحركة الإصلاحية وما تتطلبها من تثقيف وتربية وتنشيط حذرا من إثارة حقد الإدارة الاستعمارية الحانقة على المشروع الذي سقط من أيديها، وتحول من الرذيلة إلى الفضيلة، فقد ظلت بالمرصاد تراقب وتحصي أنفاس المعلمين وتحركاتهم، وتضايقهم كلما عن لها ذلك، كما فعلت مع الأستاذ الحسيني الذي أنذره "الكوميسار" محافظ الأمن، وهدده مرارا بالطرد وأسوء العواقب التي يتعرض لها إن هو حاول أن يظهر لباقته ودعوته بين الناس.
ولكن هذه التهديدات تكاد تكون مألوفة عند عامة المعلمين الأحرار، فهي لم تفت من ساعدهم، ولم تضعف من عزائمهم وصمودهم إذ أصبحت أساليب فرنسا ـ وما تكنه للإسلام والمسلمين ومدارس العربية ـ مفضوحة.
كل له نية في بغض صاحبه *** بنعمة الله نقليكم وتقلونا
ورغم ما يحاك من تدبير للمدرسة ومعلميها والحركة الإصلاحية المنتشرة ، فقد ظلت تمارس مهمتها بفضل اليقظة والوعي الإجتماعي والشعور بالمسؤولية فكان من معلميها الأساتذة:
الطيب العلوي، محمد الشريف الحسيني، وزوجته المعلمة عقيلة ونيسي، محمد الجريدي وزوجته المعلمة نجية ، أحمد فروخي.
المدرسة في طورها الأخير:واندلعت الثورة التحريرية، واشتغلت الإدارة الاستعمارية بما هو أهم، وأعرضت على التعليم الحر وقراراته وقوانينه ومعلميه ورخصهم التي تجري وراء تصحيحها أو سحبها ومنعها.
وانطلق إضراب ثمانية أيام المشهورة، وتحدى الشعب الجزائري الاستعمار، وتحمس للغناء والفداء في سبيل الوطن، واشتدت ضربات المجاهدين الثوار في المدن والسهول والجبال، واحتدمت المعارك الضارية وظل الجيش الفرنسي فاقدا صوابه، فأقبل يثأر من الأهالي العزل يقتل منهم ويشرد ويعتقل ويعذب، فكان بين المعتقلين معلمو المدرسة وأعضاء الجمعية، وتبع ذلك إغلاق المدرسة التي ظلت مغلقة قرابة خمسة أشهر إلى أن أوعز مسؤولو جيش التحرير إلى السيدة نجية الجريدي إحدى معلماتها بمحاولة استئناف نشاطها، ما دام إغلاقها لم يترتب على أمر موجه للمدرسة نفسها.
وفعلا فتحتها واستأنفت نشاطها باستقبال تلاميذها وتلميذاتها الذين وزعتهم على أفواج ينال كل فوج منهم قسطه من التعليم في اليوم، وساندها في عملها هذا بعض من تبقى من أعضاء الجمعية، فناءت بالمسؤولية الجريئة، وقامت بواجبها، ومن حسن حظها أن الإدارة لم تعرقل نشاطها الذي ظل مستمرا إلى أن جاء الاستقلال.