يتناول الأستاذ محمود بوعياد في هذه الدراسة أحد أعلام الجزائر المغمورين وهو الفقيه المؤرخ الحافظ التنسي الذي عاش خلال القرن التاسع الهجري، الخامس عشر الميلادي، كاشفا عنه اللثام ومحددا معالم شخصيته وأهم أعماله العلمية.
رغم هذا فعَلَمُنا مازال محتاجا إلى أيادي الباحثين للكشف من خبايا شخصيته وجهوده.
أستاذنكم بأن أقص عليكم حكاية بمثابة استهلال على حد قول القدامى، لهذا الحديث المتواضع، الرامي إلى التعريف بمحمد التنسي التلمساني، وهو العالم، والفقيه، والمؤرخ، والأديب الذي تألق نجمه في سماء هذا الوطن في القرن 9هـ/15م، قلت أستأذنكم بأن أقص عليكم الحكاية التالية:
إن مكان وقوعها هو بيت الله الحرام، في مكة المكرمة، حيث كنت أؤدي شعائر العمرة. وقد تناولت في يوم من أيام إقامتي في مهد الإسلام، مصحفا من المصاحف الكثيرة الموضوعة رهن إشارة زوار بيت الله الحرام، من الحجاج، والمعمرين. وبعد أن تلوت ما تيسر من سور كتاب الله العزيز، دفعني الفضول، إلى إلقاء نظرة على المعلومات المتعلقة بالجهة التي قامت بإخراج نسخة المصحف الشريف التي كانت بين يدي، فاكتشفت أن طبع المصحف قد تم في "مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة". وعندما تطلعت إلى معرفة المعلومات الخاصة باستنساخ المصحف، وروايته قراءته، ورسمه، وضبطه، وهي المعلومات المدرجة عادة في نهاية المصاحف، تحت عنوان "تعريف هذا المصحف الشريف"، سرعان ما استقطبت انتباه الجملة التالية وهي: " وأخذت طريقة ضبطه، مما قرره علماء الضبط، على حسب ما ورد في كتاب الطراز على ضبط الخراز للإمام التنسي". تصوروا دهشتي.
لم يكن مجال للشك والتردد فيما كنت أقرأ، إذ كنت أعلم أن مواطني محمد بن عبد الله بن عبد الجليل التنسي، قد ألف كتابا في ضبط القرآن، وعنوانه هو: "الطراز على ضبط الخراز"، نفس العنوان المذكور في الصفحات الأخيرة من مصحف المدينة المنورة. والكتاب وإن لم ينشر بعد، فإن المكتبة الوطنية الجزائرية تملك نسختين مخطوطتين منه، وقد كنت اطلعت عليهما من قبل.
كنت في تلك المناسبة، وأنا في مكة المكرمة، برفقة جماعة من الأساتذة الجامعيين والمكتبيين، ممن قدموا مثلي إلى المملكة العربية السعودية من الأقطار العربية كلها، للمشاركة في ندوة علمية. فسألت أكثرهم، وكان منهم أساتذة متضلعون في علوم القرآن، والعلوم الدينية على العموم، عن هذا الاختصاصي في ضبط القرآن الذي اعتمد عليه مجمع الملك فهد، لتحقيق كتابة المصحف الشريف، والقيام بطبع ملايين النسخ منه كل سنة، توزع في الأقطار الإسلامية جميعها. فلم أجد من يعرف هذا العالم، أو يعرف كتابه، وبالأحرى أصله. وعند عودتي إلى أرض الوطن، صار حزني أكبر وأشمل، إذ لم أجد أحدا أيضا يعرف من هو الإمام التنسي مؤلف كتاب "الطراز على ضبط الخراز" المذكور في آخر هذا المصحف، هو بكل تأكيد، محمد بن عبد الله بن عبد الجليل التنسي الجزائري، وأن نسخا مخطوطة عديدة من الكتاب، موجودة بصريح العنوان المذكور، في بلاده الجزائر، وفي عدد من المكتبات في الخارج.
ولم يثبط عزيمتي فشو الجهل بصاحبي وشيوعه، سواء خارج وطنه، وفي وطنه أيضا. فتوسعت في البحث، واكتشفت أن مجمع الملك فهد في المدينة المنورة، لم يكن الفريد في اعتماده على كتاب مواطننا، بل اكتشفت أن عددا من المصاحف التي تم طبعها في بلدان إسلامية مختلفة، اعتمدت هي أيضا على كتاب الإمام التنسي، فذكرته، وذكرت كتابه. ومما زاد في حزني، أني اكتشفت أن بلده الجزائر، هي من ضمن البلدان الإسلامية النادرة التي لم يرد اسم التنسي، في خاتمة المصاحف المطبوعة فيها. بدون تعليق!
وبعد هذه المقدمة، ننتقل إلى صميم الموضوع: التحدث عن حياة الحافظ التنسي مؤرخ الدولة الزيانية والمغرب الأوسط في عهدها، وعن تراثه الفكري:
مما لاشك فيه أن محمد التنسي قد احتل منزلة مرموقة بين معاصريه، في هذا القرن التاسع الهجري الخامس عشر الميلادي الذي زخر بالعلماء، وبرز فيه عدد كبير منهم في المغرب الأوسط، وذلك رغم الفتن، ورغم تدهور الأحوال المنية في البلاد، وضعف الدولة الزيانية التي كانت تنخرها الاضطرابات الداخلية، الناجمة عن كثرة المطالبين بالعرش، وكذلك عن الحملات المتتالية للدولتين المجاورتين الحفصية في تونس، والمرينية في فاس، دون أن ننسى من بين أسباب الضعف والتدهور، ذكر التحولات السياسية والاقتصادية التي بدأت تغير وجه العالم.
وإن ما يسترعي الانتباه، فيما يتعلق بمنزلة التنسي، هو الألقاب والنعوت التي اطلقها عليه معاصروه. فسموه بالحافظ، وأصبحت الكلمة التي تدل على إتقانه لعلوم الحديث النبوي الشريف وحفظه، مقرونة باسمه. فلم يدع في كتب التراجم، إلا باسم الحافظ التنسي أو بالإمام. ومن المعروف أنه قل من لقب من العلماء بالحافظ، في العالم الإسلامي كله. وبالإضافة إلى النعوت التي كانت تسند إلى جل العلماء في العصور الفارطة، إذ كانوا ينعتون كل عالم ديني بالفقيه الجليل، والحجة، والمحقق، والحبر، الخ.. اختص التنسي بالوصف بالأديب، وبالمؤرخ. وقد سماه أحد تلاميذه "بقية الحفاظ، وقدوة الأدباء"، وما هذا إلا لاهتمامه الكبير بالأدب شعرا ونثرا، ولاهتمامه بالتاريخ. وإذا كان معاصروه والمترجمون له، قد انتبهوا لقوة حافظته، ولسعة اطلاعه، ولتبحره في علم الحديث النبوي الشريف، وفي الفقة فإننا نلاحظ أنهم حرصوا كل الحرص، على إظهار ميله إلى التاريخ والأدب، مع أن الاهتمام بالمادتين كما هو معروف، كان قليلا في ذلك العصر الذي تغلبت فيه العلوم الدينية والتصوف علىالحياة العلمية، وعلى جميع مرافق الحياة وأحوالها، فوصف أحمد الونشريسي صاحب "المعيار" التنسي "بالفقيه، الحافظ، التاريخي، والأديب الشاعر". والاسم الكامل للكتاب هو: "المعيار المعرب، والجامع المغرب عن فتاوي علماء إفريقية والأندلس والمغرب".
ومما يستوقف نظرنا، أننا نجهل الكثير عن حياة هذا العالم الأديب، الذي بلغ ما بلغ من الشهرة بين معاصريه. إن من الراجح أنه ولد في مدينة تنس. وقلت من الراجح لأنه لا تتوفر لدينا وثائق تقطع بذلك. واعتمدنا لإثبات مكان ولادته على اسمه أولا، وإن كان هذا لا يكفي دائما، وثانيا على نص لأحمد المقري يدل على أن التنسي لم يولد في تلمسان، التي قضى بها شطرا كبيرا من حياته فسمي بالتلمساني. وقد قال عنه المقري: "الإمام الحافظ عبد الله التنسي نزيل تلمسان". ولاحظوا كيف سماه المقري. قال: "الإمام الحافظ".
وإذا كنا نعرف تاريخ وفاته وهي سنة 899 هجرية الموافقة لسنة 1494م، فإننا لا نعلم إلا اليسير عن مجرى حياته. إننا نجهل سنه يوم توفي، ومكان وفاته، ومورد رزقه، كما أننا نجهل حتى أين توفي وأين ضريحه. وهذا امر غريب في حق عالم بلغ شهرته، وهو لا يزال على قيد الحياة. ومما لا شك فيه، أنه اشتغل بالتعليم، لكثرة التلاميذ الذين عدوه من شيوخهم. وقد قال أحدهم:
"لازمت مجلس الفقية العالم الشهير، سيدي التنسي عشرة أعوام، وحضرت إقراءه تفسيرا، وحديثا، وفقها وعربية، وغيرها".
وفيما يتعلق بتكوينه، فإننا لا نعلم أيضا أين تعلم. ونكتفي بالإشارة إلى أن المترجمين له، ذكروا من بين شيوخه، كبار علماء عصره في المغرب الأوسط، أمثال محمد بن مرزوق الحفيدن وأحمد بن زاغو، وقاسم بن سعيد العقباني، ممن كانت لهم "مشاركة في العلوم العقلية والنقلية" على حد تعبير كتاب التراجم. هذا ونستنتج من العدد الكبير من العلماء، الذين تتلمذوا عليه، وحضروا حلقات دروسه، أنه مارس التدريس كما ذكرنا منذ حين. ونذكر من بين هؤلاء التلاميذ، المتصوف الشهير أحمد زروق، ومحمد بن صعد مؤلف "النجم الثاقب فيما لأولياء الله من المناقب"، ومؤلف "روضة النسرين في مناقب الأربعة المتأخرين".
وقد اشتغل الإمام التنسي أيضا بالإفتاء كباقي كبار العلماء. ومما يثبت اهتمامه بالافتاء، جوابه الطويل في "قضية يهود توات" التي سنعود للحديث عنها بعد حين، وقد نقل أيضا أحمد الونشريسي في "المعيار" عددا من فتاويه، زيادة على النازلة الخاصة بيهود توات. غير أن هذا لا يدل على أنه تولى منصبا رسميا للإفتاء، ويبدو أنه لم يتول منصب الخطابة أيضا، في مسجد من المساجد، على غرار عدد من العلماء والفقهاء في تلك العصور. وإننا نجهل كذلك تمام الجهل، طبيعة العلاقة التي كانت تربطه بمعاصره الملك الزياني محمد المتوكل، وبالقصر الملكي، مع أنه ذكر في مقدمة أهم كتبه، وهم "نظم الدر والعِقيان..."، أنه أقدم على تأليف هذا "التصنيف الملوكي"، "لأن نعماء هذا الملك قد توالت عليه". ولا تتوفر لدينا معلومات عن طبيعة هذه النعماء.
* * *
________________________
(*)مستشار ثقافي لرئاسة الجمهورية.